image عفيف تكتب: هل يستجيب إصلاح مدونة الأسرة لإشكالات حقيقية أم مفتعلة؟
A | A+ | A- |

عفيف تكتب: هل يستجيب إصلاح مدونة الأسرة لإشكالات حقيقية أم مفتعلة؟

يشهد بلدنا نقاشا مجتمعيا حول مشروع تعديل مدونة الاسرة بمنطلقات ورهانات متباينة. والواقع أن بلدنا تتفرد بنظام ملكي، الملك فيه هو "أمير المؤمنين"، ومما دوّنه الوزير السابق للأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة السابق محمد المكي الناصري عن هذا المصطلح "أمير المؤمنين" لقب إسلامي جليل له أهمية كبرى ومغزى عميق...وقد استعمل قادة المغرب... لقب "أمير المؤمنين "...لأن المغرب منذ تلقى رسالة الإسلام الخالدة تولى نشرها في العالمين...والتضحية بالنفس والنفيس من أجل عزة الإسلام وعزة المسلمين…وهكذا استمر ملوك الدولة العلوية الشريفة... محتفظين بهذا اللقب ... معتزين به، عاملين على إبرازه، لا فرق في ذلك بين مخاطباتهم اليومية، ووثائقهم الرسمية... وتعاملوا معه على أنه "لقب تكليف" قبل أن يكون لقب تشريف، فقد كرسوا كافة جهودهم للوفاء بالتزاماته، والقيام بمسؤولياته، وأول تلك الالتزامات التي وفوا بها: الحفاظ على معالم الدين، والدفاع عن حرمات المسلمين، وحفظ الطابع الأصيل لهذا البلد الأمين، ومما جاء في  وصية المرحوم جلالة الملك محمد الخامس لابنه جلالة الملك الحسن الثاني بعد تنصيبه وليا للعهد قوله: (إياك يا بني أن تحيد عن صراط الإسلام القويم، أو تتبع غير سبيل المؤمنين، فإنه لا عدة في الشدائد كالإيمان، ولا حيلة في المحافل كالتقوى... واجعل القرآن المصباح الذي تستضيء به إذا ادهلمت الدياجي واشتبكت عليك السبل، وليكن لك في رسول الله وصالحي الخلفاء أسوة حسنة - أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)، وعلى نفس النهج استمر جلالة الملك محمد السادس نصره الله فكان توجيهه المؤطر في إصلاح "مدونة الأسرة" "بصفتي أمير المؤمنين...فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله" وأضاف “من هنا، نحرص أن يتم ذلك ، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي". 
فكما شكل خطاب الملك إطارا منهجيا اعتمد الاشراك والتشاور والحوار، فقد شكل أيضا إطارا مرجعيا رسم حدود الاجتهاد والنص التي يجب  أن لا تحل حراما ولا تحرم حلالا.. وأكد جلالة الملك محمد السادس، باعتباره أميرا للمؤمنين  حرصه على الاصلاح   في إطار الشرع الاسلامي إحالته  بعض المقترحات التي رفعتها الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة المرتبطة بنصوص دينية إلى المجلس العلمي الأعلى للإفتاء بشأنها، والاجتهاد لاستنباط مصلحة الأسرة من تعاليم الدين الإسلامي ووسطية أحكامه واعتدال منهجه.
 فجاء رأي المجلس العلمي في   التعديلات المقترحة على النظر الشرعي كما عرض ذلك وزير الاوقاف والشؤون الإسلامية بصفته عضوا في المجلس الاعلى العلمي موضحا رفض ثلاثة مقترحات، لأنها تتعلق بنصوص قطعية لا تجيز الاجتهاد فيها، ومؤكدا "سبل إمكان موافقة البعض الآخر منها لمقتضى الشريعة"، مبديا الموافقة الشرعية للمجلس الاعلى العلمي على مقترحات الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة في باقي التعديلات.
ولأن الاجتهاد كما الفتوى لهما أهل  وشروط، فيبقى الاختصاص لأهله، كما  يبقى لهم التفسير والاستشهاد والتعليل والتواصل من أجل تبيان سبل الامكان لموافقة باقي التعديلات لمقتضى الشريعة الإسلامية. 
وهذا لا يمنع من التأكيد على أن الأسرة الإسلامية تؤسس  بميثاق غليظ على المودة والرحمة كما جاء في قوله عز وجل : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) الروم ، والعلاقة بين الزوجين تحكمها المعاشرة بالمعروف، هذه القاعدة العظيمة هي التي تضمن الألفة والمحبة والحلم والتعاون مدى الحياة، وتنطبق سواسية على الزوج والزوجة ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) النساء،   )وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)  البقرة.
وقد ترجم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذا في واقع حياته، فكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم جميل العشرة، دائـم البشر مع أهله ويتلطف بهـم، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)، والكثير مما ورد في هذا الإطار بكل دقة وتفصيل ولم يترك مكونا من الأسرة  الا وورد في حقه ما له وما عليه تفصيلا وفي إطار تكاملي ينتج أسرة متوازنة متماسكة قوية لها كل مقومات وإمكانيات الخلية الأساسية للمجتمع القادرة بكل استحقاق وكفاءة على الاسهام في  بناء وطنها والتضحية من أجله بالنفس والغالي.
ولأن الاستيلاب الفكري والثقافي استولى على قلوبنا قبل عقولنا، فبدأت عرى الأسرة الإسلامية تتلاشى واحدة تلو الأخرى، فكانت النتيجة بروز ظواهر وانحرافات اجتماعية قسمت ظهر الأسرة، ومازاد الوضع حدة عوض أن نستأصل الداء من أصله، أخذتنا الأمواج الهائجة، فغرقنا في البحث عن حلول لأعراضه وهذا لن يزيل الداء بل قد تتطور أعراضه وتكون له مضاعفات وخيمة.. فيصدق علينا خلاف قول الراحل جلالة الملك محمد الخامس " ... أن تحيد عن صراط الإسلام القويم، أو تتبع غير سبيل المؤمنين، فإنه لا عدة في الشدائد كالإيمان، ولا حيلة في المحافل كالتقوى"،   ومما جاء في خطاب العرش 2023  التوجيه المتبصر لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله   قائلا  “في ظل ما يعرفه العالم من اهتزاز في منظومة القيم والمرجعيات، وتداخل العديد من الأزمات، فإننا في أشد الحاجة إلى التشبث بالجدية بمعناها المغربي الأصيل: أولا : في التمسك بالقيم الدينية والوطنية، وبشعارنا الخالد: الله – الوطن – الملك؛ -ثانيا: في التشبت بالوحدة الوطنية والترابية للبلاد؛ -ثالثا: في صيانة الروابط الاجتماعية والعائلية من أجل مجتمع متضامن ومتماسك؛
وكما أن جلالته سهر على  التأطير المرجعي لإصلاح المدونة، فقد أكد أيضا بقوله " كما يتعين تجاوز السلبيات والاختلالات التي أبانت عنها التجربة".
وارتباطا بهذا، سأعرج على بعض الاختلالات التي برزت إلى الوجود وبتصاعد قياسي لعلها تجد موقعا لها في مشروع مدونة الاسرة:
-    ارتفاع كبير في نسب الطلاق: سجل تقرير أصدره المجلس الأعلى للسلطة القضائية حول القضاء الأسري بالمغرب  ، تطورا مضطردا ومتسارعا في قضايا الطلاق والتطليق مقارنة مع طلبات الزواج، إذ تشير الاحصائيات أن مقابل كل 100 طلب للإذن بتوثيق الزواج، يقابله رفع ما يقارب 50 دعوى طلاق أوتطليق، وذلك بنسبة تعادل 49.93%. وأكد التقرير  أن  طلاق الشقاق والطلاق الاتفاقي النوع الأكثر عرضا على المحكمة، إذ بلغ عدد حالات طلاق الشقاق خلال هذه الفترة إلى 421.036 حالة، بنسبة 71.51 بالمائة في حين بلغ عدد حالات الطلاق الاتفاقي 123.221 حالة بنسبة 20.93 بالمئة، هذه ارقام مقلقة تدق ناقوس الخطر ، وتنذر بتداعيات اجتماعية واقتصادية خاصة في حالة وجود الابناء، ولأن المناسبة شرط، فمن تداعيات الطلاق كما كشفت دراسة ميدانية أنجزها نفس  المجلس حول أسباب زواج القاصرات  فكانت المعطيات الاحصائية أن   عدم الاستقرار الأسري وغياب التفاهم والتوازن مسهم كبير في الزواج المبكر حيث بلغت نسبةالقاصرات اللواتي نشأن في وسط غير مستقر 74.30 % من مجموع الفتيات المتزوجات بشكل مبكر.
-    ارتفاع العنوسة والعزوف عن الزواج وارتفاع معدل السن في الزواج: كشف تقرير  للمندوبية السامية للتخطيط  “المرأة المغربية في أرقام 2023″ عن أرقام مقلقة تخص معدلات تفشي “العنوسة” في صفوف النساء، مسجلة ازديادا ملحوظا وانتشارا واسعا وخاصة في صفوف الإناث، حيث أن 40.7% من الإناث الراشدات و 28.3% من الذكور في مرحلة العزوبة. وأبانت المندوبية أن المغرب انتقل من الزواج المبكر إلى الزواج المتأخر بشكل متزامن في الوسطين الحضري والقروي. و أبرزت أن سن الزواج في المغرب انتقلت إلى 28 سنة لدى الفتيات، و27 سنة بالنسبة للرجال، وأن نسبة التأخر في الزواج عند الفتيات التي تتراوح أعمارهن بين 18 و24 سنة، شهدت ارتفاعا.
-    انخفاض معدل الخصوبة: الذي اندحر  من 7 اطفال لكل امرأة سنة 1960  إلى 1.97 طفل سنة 2024، أقل حتى من المعدل الذي يسمح بتجديد الأجيال والذي  يجب أن لا ينخفض عن 2.1 طفل لكل امرأة. 
-    ارتفاع معدل الشيخوخة : كشفت نتائج الإحصاء الاخير أن نسبة الشيوخ البالغ عددهم خمسة ملايين تجاوزت نسبة نمو السكان،  وأن الهرم السكاني بدأ ينقلب، حيث انخفضت نسبة الأطفال دون 15 عاما إلى 26% سنة 2024، في حين ارتفع عدد السكان فوق 60 عاما إلى 13%. ما يشير إلى “تسارع شيخوخة المغاربة، وحدوث تحول عميق في البنية الديموغرافية”.
-    أطفال الشوارع  من بينهم أطفال صغار جدا بل حتى الإناث، وترجع عدد من الدراسات أسباب هذه الظاهرة المؤلمة إلى الطلاق والتفكك الأسري والفقر  والسكن على الهوامش. 
-    تزايد الامهات العازبات أو بالأحرى الأمهات خارج إطار الزواج وبالتبع ارتفاع عدد الأطفال المتخلى عنهم بالرغم من غياب احصاءات رسمية، فالجمعيات ذات الصلة بالموضوع  تنبه إلى تزايد عدد الأمهات العازبات في المغرب "بشكل مضاعف" ، وأشارت جمعية بمدينة البيضاء أنه خلال 3 سنوات توافدت عليها 1600 أم عازبة  من بينهن 800 أم تتراوح أعمارهن بين 12 و17 سنة.
-    توسع انتشار المخدرات والادمان إلى مستوى خطير ، والاخطر حتى وسط التلاميذ بمن فيهم الابتدائي،  بل عدد منهم أضحى يساهم في ترويجها كما أبانت ذلك تقارير جمعيات تعمل في الميدان بل حتى تقارير رسمية أكدت ذلك منها تقرير المجلس الاعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.
-    ارتفاع العنف والاجرام حتى في حق الأصول والأبناء
وغيرها من الظواهر والاختلالات الاجتماعية التي تعرف تزايد مضطردا .
من المؤكد أن غالبية ضحايا هذه الظواهر والاعتلالات من أسر في معظمها تعاني التفكك وغياب التوازن وتعاني أوضاعا اجتماعية واقتصادية  والفقر والتهميش...
فهل الصياغة القانونية للتوجهات والمقترحات العامة لمشروع مدونة الأسرة ستستجيب للاشكالات الكبيرة المطروحة لا المفتعلة أو ذات الانتشار الضئيل من مثل زواج التعدد الذي لا يتجاوز نسبة  0.66% ، أو زواج القاصرات الذي انخفض بشكل ملحوظ بل حتى المندوبية كما ذكرت أعلاه أقرت بالانتقال من الزواج المبكر إلى الزواج المتأخر.  
 وتستحضر التحولات الديموغرافية ذا الأثر الكبير  على مستقبل بلدنا، والتحديات الاجتماعية المطروحة في إطار   "التشبث بالجدية بمعناها المغربي الأصيل كما طرحها جلالة الملك بوضوح وحددها  في "التمسك بالقيم الدينية والوطنية، وبشعارنا الخالد: الله – الوطن – الملك"؛  "وصيانة الروابط الاجتماعية والعائلية من أجل مجتمع متضامن ومتماسك؛".


ثورية عفيف: عضو المجموعة النيابية للعدالة والتنمية

/ تاريخ النشر 2024-12-31

جريدة المجموعة